فصل: تفسير الآيات (43- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (43- 49):

{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}
المراد بالملك هنا: هو الملك الأكبر، وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيراً له، رأى في نومه لما دنا فرج يوسف عليه السلام أنه خرج من نهر يابس {سَبْعَ بقرات سِمَانٍ} جمع سمين وسمينة، في إثرهن سبع عجاف: أي: مهازيل، وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهنّ. والمعنى: إني رأيت، ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار الصورة، وكذلك قوله: {يَأْكُلُهُنَّ} عبر بالمضارع للاستحضار، والعجاف جمع عجفاء، وقياس جمعه عجف؛ لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال، ولكنه عدل عن القياس حملاً على سمان {وَسَبْعَ سنبلات} معطوف على سبع بقرات. والمراد بقوله: {خُضْرٍ} أنه قد انعقد حبها، واليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها، ولعل عدم التعرّض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات. {ياأيها الملأ} خطاب للأشراف من قومه {أَفْتُونِى في رؤياى} أي: أخبروني بحكم هذه الرؤيا {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أي: تعلمون عبارة الرؤيا، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر، فمعنى عبرت النهر: بلغت شاطئه، فعابر الرؤيا يخبر بما يئول إليه أمرها. قال الزجاج: اللام في {للرؤيا} للتبيين، أي: إن كنتم تعبرون. ثم بين فقال: {للرؤيا} وقيل: هو للتقوية، وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل.
وجملة {قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، والأضغاث: جمع ضغث، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما، والمعنى: أخاليط أحلام، والأحلام: جمع حلم: وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها كما يكون من حديث النفس ووسواس الشيطان، والإضافة بمعنى من، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلاّ رؤيا واحدة مبالغة منهم في بالبطلان، ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا غيرها مما لم يقصه الله علينا {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحلام بعالمين} قال الزجاج: المعنى بتأويل الأحلام المختلطة، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له، لا مطلق العلم بالتأويل. وقيل: إنهم نفوا عن أنفسهم علم التعبير مطلقاً، ولم يدّعوا أنه لا تأويل لهذه الرؤيا. وقيل: إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها، ولم يكن ما ذكروه من نفي العلم حقيقة.
{وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا} أي: من الغلامين، وهو الساقي الذي قال له يوسف: {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} {وادّكر بعد أمة} بالدال المهملة على قراءة الجمهور، وهي القراءة الفصيحة، أي: تذكر الساقي يوسف وما شاهده منه من العلم بتعبير الرؤيا، وقرئ بالمعجمة، ومعنى {بَعْدَ أُمَّةٍ}: بعد حين، ومنه {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] أي: إلى وقت، قال ابن درستويه: والأمة لا تكون على الحين إلاّ على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كأنه قال: والله أعلم: وادكر بعد حين أمة أو بعد زمن أمة، والأمة: الجماعة الكثيرة من الناس.
قال الأخفش: هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع، وكل جنس من الحيوان أمة. وقرأ ابن عباس وعكرمة: {بعد أمة} بفتح الهمزة وتخفيف الميم، أي: بعد نسيان، ومنه قول الشاعر:
أمِهتُ وكنت لا أنسى حديثا ** كذاك الدهر يودي بالعقول

ويقال أمه يأمه أمها: إذا نسي. وقرأ الأشهب العقيلي {بعد إمَّة} بكسر الهمزة، أي: بعد نعمة، وهي نعمة النجاة. {أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي: أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله، وهو يوسف. {فَأَرْسِلُونِ} خاطب الملك بلفظ التعظيم، أو خاطبه ومن كان عنده من الملأ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف ليقصّ عليه رؤيا الملك حتى يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك.
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا} أي: يا يوسف، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأرسلوه إلى يوسف فسار إليه، فقال له: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} إلى آخر الكلام، والمعنى: أخبرنا في رؤيا من رأى سبع بقرات إلخ، وترك ذكر ذلك اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف بأن ذلك رؤيا، وأن المطلوب منه تعبيرها {لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس} أي: إلى الملك ومن عنده من الملأ {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا، أو يعلمون فضلك ومعرفتك لفنّ التعبير. وجملة: {قَالَ تَزْرَعُونَ} إلخ مستأنفة جواب سؤال مقدّر كغيرها مما يرد هذا المورد {سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} أي: متوالية متتابعة، وهو مصدر. وقيل: هو حال، أي: دائبين، وقيل: صفة لسبع، أي: دائبة.
وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه قرأ: {دأبا} بتحريك الهمزة، وكذا روى حفص عن عاصم وهما لغتان قال الفراء: حرك لأن فيه حرفاً من حروف الحلق، وكذلك كل حرف فتح أوّله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات معروفة. فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب، والعجاف بسبع سنين فيها جدب، وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر، والسبع السنبلات اليابسات، واستدل بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ في سُنبُلِهِ} أي: ما حصدتم في كل سنة من السنين المخصبة فذروا ذلك المحصود في سنبله ولا تفصلوه؛ عنها لئلا يأكله السوس إلاّ قليلاً مما تأكلون في هذه السنين المخصبة، فإنه لابد لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها. واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم، لأنه قد علم من قوله: {تزرعون} {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك} أي: من بعد السبع السنين المخصبة {سَبْعٌ شِدَادٌ} أي: سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها، وإسناد الأكل إلى السنين مجاز، والمعنى: يأكل الناس فيهنّ، أو يأكل أهلهنّ ما قدمتم لهنّ: أي: ما ادخرتم لأجلهنّ، فهو من باب: نهاره صائم، ومنه قول الشاعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ** وليلك نوم والردى لك لازم

{إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ} أي: مما تحبسون من الحب لتزرعوا به؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات.
وقال أبو عبيدة: معنى {تحصنون} تحرزون. وقيل: تدّخرون، والمعنى واحد.
قوله: {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي: من بعد السنين المجدبات، فالإشارة إليها، والعام: السنة {فِيهِ يُغَاثُ الناس} من الإغاثة أو الغوث، والغيث المطر، وقد غاث الغيث: بالأرض، أي: أصابها، وغاث الله البلاد يغيثها غوثاً: أمطرها، فمعنى {يغاث الناس}: يمطرون {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي: يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون. وقيل: أراد حلب الألبان. وقيل: معنى {يعصرون} ينجون، مأخوذ من العصرة وهي المنجاة. قال أبو عبيدة: والعصر بالتحريك: الملجأ والمنجاة، ومنه قول الشاعر:
صاديا يستغيث غير مغاث ** ولقد كان عصرة المنجود

واعتصرت بفلان: التجأت به. وقرأ حمزة والكسائي: {تعصرون} بتاء الخطاب، وقرئ: {يعصرون} بضم حرف المضارعة وفتح الصاد، ومعناه يمطرون، ومنه قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً} [النبأ: 14].
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال يوسف للساقي: أذكرني عند ربك، أي: الملك الأعظم، ومظلمتي وحبسي في غير شيء، فقال: أفعل، فلما خرج الساقي ردّ على ما كان عليه، ورضي عنه صاحبه، وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين، ثم إن الملك ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أري فيها فهالته، وعرف أنها رؤيا واقعة، ولم يدر ما تأويلها، فقال للملأ حوله من أهل مملكته {إِنّى أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات} فلما سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها، ذكر يوسف ما كان عبَّر له ولصاحبه، وما جاء من ذلك على ما قال، فقال: أنا أنبئكم بتأويله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أضغاث أَحْلاَمٍ} يقول: مشتبهة.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير عنه قال: من الأحلام الكاذبة.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} قال: بعد حين.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وعكرمة وعبد الله بن كثير والسدّي مثله.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: بعد سنين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بعد أمة من الناس.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {أَفْتِنَا في سَبْعِ بقرات} الآية، قال: أما السمان فسنون فيها خصب، وأما العجاف فسنون مجدبة، وسبع سنبلات خضر هي السنون المخاصيب، تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها، وآخر يابسات: المحول الجُدُوب لا تنبت شيئاً.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت عليهم أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ} يقول: تخزنون، وفي قوله: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يقول: الأعناب والدهن.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {فِيهِ يُغَاثُ الناس} يقول: يصيبهم فيه غيث {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يقول: يعصرون فيه العنب، ويعصرون فيه الزبيب، ويعصرون من كل الثمرات.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عنه أيضاً {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قال: يحتلبون.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عنه أيضاً {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ} قال: أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كأنّ الله قد علمه إياه فيه يغاث الناس بالمطر، وفيه يعصرون السمسم دهناً، والعنب خمراً والزيتون زيتاً.

.تفسير الآيات (50- 57):

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)}
قوله: {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ} في الكلام حذف قبل هذا، والتقدير: فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره به يوسف من تعبير تلك الرؤيا، وقال الملك لمن بحضرته: {ائتوني به} أي: بيوسف، رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله، بعد أن علم من فضله ما علمه، من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه. {فَلَمَّا جَاءهُ} أي: جاء إلى يوسف {الرسول} واستدعاه إلى حضرة الملك، وأمره بالخروج من السجن {قَالَ} يوسف للرسول {ارجع إلى رَبّكَ} أي: سيدك {فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} أمره بأن يسأل الملك عن ذلك، وتوقف عن الخروج من السجن، ولم يسارع إلى إجابة الملك، ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلماً بيناً، ولقد أعطى عليه السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوّره، ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» يعني: الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك. قال ابن عطية: هذا الفعل من يوسف أناة وصبراً، وطلباً لبراءة ساحته، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة، ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون: هذا الذي راود امرأة العزيز، وإنما قال: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة} وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز، أو خوفاً منه من كيدها وعظيم شرّها، وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهنّ له، تنزهاً منه عن نسبة ذلك إليهنّ، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدّم إلى امرأة العزيز إلاّ بعد أن رمته بدائها وانسلت.
وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله: {إِنَّ رَبّى بكيدهن عَلِيمٌ} فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهنّ مغنياً عن التصريح.
وجملة {قَالَ فَمَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف؟ والخطب: الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة، والمعنى: ما شأنكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه.
وقد تقدّم معنى المراودة، وإنما نسب إليهنّ المراودة، لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم، ومن جملة ما شمله خطاب الملك امرأة العزيز، أو أراد بنسبة ذلك إليهنّ وقوعه منهنّ في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشياً عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز، فأجبن عليه بقولهنّ: {قُلْنَ حَاشَ لله} أي: معاذ الله {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} أي: من أمر سيء ينسب إليه، فعند ذلك {قَالَتِ امرأت العزيز} منزهة لجانبه مقرّة على نفسها بالمراودة له {الآن حصحص الحق} أي: تبين وظهر.
وأصله: حصّ، فقيل: حصحص كما قيل في كبوا: {فكبكبوا} [الشعراء: 94] قاله الزجاج، وأصل الحصّ: استئصال الشيء، يقال: حصَّ شعره، إذا استأصله، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
قد حَصت البيضةُ رأسي فما ** أطعمُ نوما غيرَ تهجاعِ

والمعنى: أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه، ومنه:
فمن مبلغ عني خِداشا فإنه ** كَذوبٌ إذا ما حَصحَص الحق ظالِمُ

وقيل: هو مشتق من الحصة، والمعنى: بانت حصّة الباطل. قال الخليل: معناه ظهر الحق بعد خفائه، ثم أوضحت ذلك بقولها: {أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ} ولم تقع منه المراودة لي أصلاً {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} فيما قاله من تبرئة نفسه، ونسبة المراودة إليها، وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام.
قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب}: ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا من كلام يوسف عليه السلام. قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر، إذا دلت القرينة الصارفة إلى كل منهما إلى ما يليق به، والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه، وهي تثبته وتأنيه، أي: فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله بالغيب، والمعنى: بظهر الغيب، والجار والمجرور في محل نصب على الحال أي: وهو غائب عني، أو وأنا غائب عنه، قيل: إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة، وما قالته امرأة العزيز. وقيل: إنه قال ذلك وقد صار عند الملك، والأوّل أولى، وذهب الأقلون من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز، والمعنى: ذلك القول الذي قلته في تنزيهه، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه، فأنسب إليه ما لم يكن منه، وهو غائب عني، أو وأنا غائبة عنه، والإقرار على نفسي به. {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} أي: لا يثبته ويسدّده، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم، وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها. وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته.
{وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى} إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء، وظهر ذلك ظهور الشمس، وأقرّت به المرأة التي ادّعت عليه الباطل، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة؛ لأنها قد أقرت بالذنب، واعترفت بالمراودة وبالافتراء على يوسف.
وقد قيل: إن هذا من قول العزيز وهو بعيد جدّاً، ومعناه: وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} أي: إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات، وتأثيرها بالطبع، وصعوبة قهرها، وكفها عن ذلك {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} أي: إلاّ من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء، أو إلاّ وقت رحمة ربي وعصمته لها، وقيل: الاستثناء منقطع، والمعنى: لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء، وجملة {إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليل لما قبلها، أي: إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم.
قوله: {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدّم. ومعنى {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى}: أجعله خالصاً لي دون غيري، وقد كان قبل ذلك خالصاً للعزيز، والاستخلاص: طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة، قال ذلك لما كان يوسف نفيساً، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} في الكلام حذف، وتقديره فأتوه به، فلما كلمه، أي: فلما كلم الملك يوسف، ويحتمل أن يكون المعنى: فلما كلم يوسف الملك، قيل: والأوّل أولى؛ لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلاّ هم دون من يدخل عليهم. وقيل: الثاني أولى؛ لقول الملك: {قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك، وقربه من قلبه، فقال هذه المقالة، ومعنى {مكين}: ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره، أو على ما يكله إليه من ذلك. قيل: إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره، وقال له: إني أحبّ أن أسمع منك تعبير رؤياي، فعبرها له بأكمل بيان، وأتمّ عبارة، فلما سمع الملك منه ذلك قال له: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}.
فلما سمع يوسف منه ذلك قال: {اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض} أي: ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهي أرض مصر، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال. طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل، ورفع الظلم، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله، وترك عبادة الأوثان.
وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق، ويهدم ما أمكنه من الباطل، وطلب ذلك لنفسه، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها، ترغيباً فيما يرومه، وتنشيطاً لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه، وجعلها منوطة به، ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم من النهي عن طلب الولاية والمنع من تولية من طلبها، أو حرص عليها.
والخزائن جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، والحفيظ: الذي يحفظ الشيء، أي: {إِنّى حَفِيظٌ} لما جعلته إليّ من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها، ولا أصرفها في غير مصارفها {عَلِيمٌ} بوجوده جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها.
{وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي: ومثل ذلك التمكين العجيب مكنا ليوسف في الأرض أي: جعلنا له مكاناً، وهو عبارة عن كمال قدرته، ونفوذ أمره ونهيه، حتى صار الملك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} أي: ينزل منها حيث أراد ويتخذه مباءة، وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدّم، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر، كما يتصرف الرجل في منزله. وقرأ ابن كثير بالنون، وقد استدلّ بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر، بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق.
وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفياً في قوله سبحانه: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ} [هود: 113] {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء} من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه، والإنعام عليه، وفي الآخرة بإدخاله الجنة وإنجائه من النار {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم، أي: لا نضيع ثوابهم فيها، ومجازاتهم عليها {وَلأجْرُ الأخرة} أي: أجرهم في الآخرة، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملابسة، وأجرهم هوالجزاء الذي يجازيهم الله به فيها، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدّتها {خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ} بالله {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الوقوع فيما حرّمه عليهم. والمراد بهم: المحسنون المتقدم ذكرهم، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتدّ به، هو الإيمان والتقوى.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {مَا بَالُ النسوة} قال: أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في الشعب عنه قال: لما قالت امرأة العزيز: أنا راودته، قال يوسف: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} فغمزه جبريل فقال: ولا حين هممت بها؟ فقال: {وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى} الآية.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {حَصْحَصَ الحق} قال: تبين.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، والسدّي مثله.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، عن حكيم بن حزام في قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} فقال له جبريل: ولا حين حللت السراويل؟ فقال عند ذلك {وما أبرئ نفسي}.
وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} قال: فأتاه الرسول فقال: ألقِ عنك ثياب السجن والبس ثياباً جدداً وقم إلى الملك، فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً، فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدّامه وقال: لا تخف، وألبسه طوقاً من ذهب وثياب حرير، وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك، وضرب الطبل بمصر: إن يوسف خليفة الملك.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال الملك ليوسف: إني أحبّ أن تخالطني في كل شيء إلاّ في أهلي. وأنا آنف أن تأكل معي، فغضب يوسف، وقال: أنا أحق أن آنف، أنا ابن إبراهيم خليل الله، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله، وأنا ابن يعقوب نبيّ الله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله: {اجعلنى على خَزَائِنِ الارض} يقول: على جميع الطعام {إِنّى حَفِيظٌ} لما استودعتني {عَلِيمٌ} بسني المجاعة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} قال: ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء.
وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم، أن يوسف تزوج امرأة العزيز فوجدها بكراً، وكان زوجها عنينا.